*الصبر خير عطاء *
صح عن أبي سعيد الخدري: أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده، قال: ((ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خيراً وأوسع من الصبر)).
وكم في قوله: ((وما أعطي أحد من عطاء خيراً وأوسع من الصبر)) من دروس، إن هذه الكلمة عليها نور النبوة، وهي من الكلم الجوامع.
وينبغي أن تكون منهجاً للمسلم في حياته إذا انتابه أمر لم يجد له مخرجاً، فإذا تساءل ماذا أعمل؟ فتحت له هذه الكلمة كنوز الدنيا والآخرة، وتدله على الطريق في ظلمة الليل البهيم، ولو فقه كثير من الناس هذه الكلمة وما ترمي إليه، لتجاوزوا المعضلات، ولتهاوت أمامهم أعظم وأعتى العقبات.
إنني أتعجب من أولئك الذين يبحثون عن الحلول لمشكلاتهم، فتستغرقهم اللحظة الحاضرة، فيقدمون على حلول لم تنضج ولم يحن وقتها، فيضيفون إلى مصائبهم مصائب أخرى، ويعظم الأمر إذا كانت القضية تتعلق بأمور المسلمين، فيدخلون الأمة في متاهة لا تعرف نهايتها، ونفق لا يدري أين طرفه؟
لو أدركوا حقيقة هذه الكلمة لعلموا أن أعظم الأعمال التي يجب أن يقوموا بها من أجل حلّ تلك المعضلات هو الصبر، فالصبر عطاء من الله، وما أعظم آثاره، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يمرّ بآل ياسر -رضي الله عنهم- وهم يُعذبون فيقول لهم: ((صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)) ولو لم يكن الصبر عملاً عظيماً لما أوصاهم به وحثهم عليه.
وكان يوصي صحابته الكرام بذلك عند كل ملمة وبلية، ويبين لهم أن الداء في العجلة وترك الصبر.
ولو لم يكن الصبر عظيماً، ودواء لكثير من الداء لما جاء ذكره في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً.
والصبر الذي نتحدث عنه هو الصبر الإيجابي؛ لا الصبر السلبي، وفرق بينهما، كما بين المشرق والمغرب.
إن الصبر السلبي هو الدعة والسكون والخمول وترك العمل، أما الصبر الإيجابي فهو الأخذ بالأسباب المشروعة، مع طول النفس وترك الاستعجال وحسن الظن بالله والثقة بوعده "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" [الروم: 60].
قيل لبعض العقلاء وقد نزلت به نازلة:
صبراً أبا أيوب صـبـر مبرحٍ*** فإذا عجزت عن الخطوب فمن لها
إن الذي عقد الذي انعقـدت*** به عقد المكاره فيك يملك حلها
صبراً فإن الصبر يعقب راحة *** فلعلهـا أن تنجلي iiولعلها
فأجاب:
صبرتني ووعظتني فأنا لها*** وستنجي بل لا أقول لعلهـا
سيحلها من كان صاحب عقدها *** كرماً به أن كان يملك حـــلها
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن يصبر يصبره الله" بيان لخطأ ما عليه كثير من الناس من قناعتهم باستحالة تغيير الطبائع، وما جبل عليه الإنسان، بينما النصوص الكثيرة، ومنها هذا الحديث، والواقع المشاهد يؤكد خطأ هذا الاعتقاد، وفساد هذا القول، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الحلم بالتحلم والعلم بالتعلم)).
والحقيقة أنه بالعزم والإصرار والصبر وحسن التدريب مع صدق النية والاستعانة بالله يغير الله من حال إلى حال، وكم من رجل كان معروفاً بالحمق أصبح من أحلم الناس، وآخر كان معروفاً بالبخل والشح أصبح من أسخى الناس.
والنفس كالطفل إن تهملْه شبّ على*** حبّ الرضاع وإن تهملْه ينفطم
وفي قول الأشج بن عبد قيس للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبره أن فيه خصلتين يحبهما الله ((الحلم والأناة)) قال: يا رسول الله: أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ (1) فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه جبل عليهما، ففي قوله، وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على سؤاله، إجابته عليه تدل على أن الإنسان قد يتخلق بخلق لم يكن فيه، بل قد جبل على غيره، ورحم الله ابن القيم الذي قال: لو وقف رجل أمام جبل وعزم على إزالته لأزاله.